ما تكاد زخَّات المطر الأُولى تسقط، حتَّى يظهر وجه الفساد القبيح، في لبنان كما في تركيا، وكذلك غيرهما من البيئات الحاضِنة للفساد والمُستسلِمة له... على ما شاهدناه الأُسبوع الماضي، من فيضانات على طرق بيروت، وبخاصَّةٍ مع ارتفاع "مَنسوب" مياه الصَّرف الصِّحِّي، ووصول ارتفاع المياه الآسنة في منطقة الرَّملة البيضاء إِلى أَكثر من 30 سنتمترًا.
وعندها "يَنفخت الطَّبل ويتفرَّق العشَّاق"، وتنطلِقُ مع هُطولِ المطر شَرارة الحرب الأُولى، بين الفاسدين والمُفسدِين وعليهم...
وكما في لبنان كذلك في تركيا، حيث أَظهر مقطع فيديو نشرته "نقابة عُمَّال البناء في تركيا"، تسرُّب مياه الأَمطار من مواضع مُختلفة من سقف مطار اسطنبول الجديد والمُغطَّى، حتَّى ارتفع منسوب المياه على الأرضيَّات في شكلٍ مُلفت للنَّظر، مع الإشارة إلى أنَّ المطار المذكور، كان من المُقرَّر أَنْ يفتتحَه الرَّئيس التُّركيُّ رجب طيِّب أردوغان بعد أسبوعَين اثنين، وقد لفت المطار التُّركيُّ الجديد الأَنظار أَخيرًا، بسبب احتجاجات عُمَّال يُشاركون في الإِنشاءات المُتعلِّقة به، حيث شكَوا مِن تردِّي أَوضاع العمل... غير أَنَّ ذلك مسأَلةٌ أُخرى.
ولقد أَجرَيت مُكالمة مع صديقٍ تركيٍّ، أَسأَله: هل ثمَّة مُتابعة حثيثة لمَسألة الفساد عندهم؟ وهل تَصل التَّحقيقات إِلى خَواتيمها؟ فقال لي بالعربيَّة "المُكسَّرة" بسبب مغادرته لبنان وهو طفلٌ، وقد بات الآن في مُنتصف العمر أَو أكثر: "لا شيء غير الكلمات، ولا تحقيق يَكشف حقائق الفساد في البلاد".
وقصَّة تركيا مع الفساد طويلة جدًّا... إِذ بعد عقودٍ من سوء الإِدارة، ظنَّت تركيا أَنَّها تتمتَّع بعقدٍ من الاستقرار السِّياسيِّ والنُّموِّ الاقتصاديِّ تحت حُكم رجب طيِّب إردوغان، رافع الشِّعار الشَّهير "مُكافحة الفساد، والفقر، والقيود على الحريَّات"، إِلى أَنْ حلَّت فضائح الفساد الأَخيرة، لِتضرب تجربة الإِسلام السِّياسيِّ، عبر سلب "حزب العدالة والتَّنمية" أَعزَّ ما يملك، أو ما كان يدَّعي أَنَّه يملكُه: "النَّزاهة ونظافة اليد".
وهُنا لا بدَّ من تسجيل محاولاتٍ عدَّة لمحاربة الفساد في عهد إِردوغان، ومنها -على سبيل المِثال لا الحصر- مُداهمة قوَّات الأَمن التُّركيَّة مقارَّ عددٍ مِن كِبار رجال الأَعمال وأَبناء الوزراء والمسؤولين، بناءً على تحقيقاتٍ في شأن تُهم بَغَسل أَموالٍ، وتَقاضي رشًى من مسؤولين حكوميِّين، وتزوير مناقصاتٍ حكوميَّةٍ، وتهريب الذَّهب إِلى إيران. وقد اعتقلت القوى الأَمنيَّة وقتها العشرات وفي مقدِّمتهم أَبناء وزير الدَّاخليَّة معمَّر غولار، ووزير الاقتصاد ظفر تشاغليان، ووزير البيئة والتَّخطيط العمرانيّ اردوغان بيرقدار، وعُمدة "حيِّ الفاتح" في اسطنبول مصطفى دمير، وصاحب "مجموعة شركات آغا أُوغلو" علي آغا أوغلو، وسليمان أَصلان المدير العام لـ"بنك خلق"، ثاني أكبر المصارف الحكوميَّة، ورجل الأَعمال الإِيرانيِّ الأَذريِّ رضا ضراب.
وفي منزل أصلان مثلاً، وجدت الشُّرطة 4.5 مليون دولار في عُلبٍ للأَحذية، وقد ادَّعى أَنَّه ينوي التَّبرُّع بها لبناء مدارسَ إِسلاميَّةٍ في تُركيا ومقدونيا.
وقد قال إِردوغان في هذا الشَّأْن أَواخر 2015: "إِنَّنا مُلتزمون بِالقانون حتَّى إِذا كان نجلي هو الَّذي تُثار حوله الشُّكوك. غير أَنَّ من الواضح أَنَّ الهدف (من عمليَّات مكافحة الكسب غير المشروع) ليس تحقيقًا في شَأْن الفَساد". كما وقال: "مِن الواضح أَنَّ الهدف... هو اغتيال الإِرادة الوطنيَّة لتُركيا".
غَير أَنَّ ثَمَّة مَن يرى "عمَليَّة فسادٍ مُمَنْهجة" في تُركيا، فالنُّخبة المُحيطة بحزبِ العَدالة والتَّنمية قَد استفادت من عمليَّات البِناء الضَّخمة، بسبب التَّغييرات والتَّهاون في تَطبيق قَوانين منح التَّراخيص، وبخاصَّةٍ في اسطنبول، على أَراضٍ كانت مُخصَّصة لأَغراضٍ مُختلفة. فهل تصحُّ هُنا أَيضًا المَقولة الشَّعبيَّة: "الرِّزق السّايب بيعلّم النّاس الحَرام"؟ للحديثِ صلة...